مقدمة عن البدايات
بسبب إندثار الخدمة التي قادها حنا القرّه في نابلس بين عامي 1866 و1904، والتي كانت تحت اشراف الإرساليات المعمدانية البريطانية منذ عام 1885، فإنّ غالبية كتب التاريخ تعزو بداية الخدمة المعمدانية المستمرة حتى يومنا هذا في فلسطين إلى العاشر من شهر أيّارمن عام 1911 عندما قام شكري موسى بتعميد لويس حنا في مجرى وادي الليمون الواقع غربيّ مدينة صفد، وهو الجزء الخصيب في المنطقة الشمالية من النهر الموْسمي عامود، والذي كان وقتها مزروعًا بكروم العنب، النخيل المُثمر، الحمضيات مثل الليمون، والكباد، الزيتون، الرمّان، اللوز والتين.
كان شكري موسى قد عاد لتوه من الولايات المتحدة، وبدأ خدمة تبشيرية معمدانية في بلدة صفد في شمال فلسطين في كانون الثاني من عام 1911 بدعم من معمدانيين جنوبيين في رابطة كنائس جنوبي ولاية إلينوي المعمدانية، وهي رابطة كنائس كانت حينذاك قد انفصلت عن المعمدانيين الشماليين وانضمت الى المعمدانيين الجنوبيين. خدم شكري في صفد لعدّة أشهر، ومن ثم انتقل الى الناصرة وأسس الكنيسة المعمدانية في الناصرة. وهي أمّ كلّ الكنائس المعمدانية في شمال فلسطين.
شكري موسى، لم يكن أول خادم معمدانيّ مرتبطاً بالمعمدانيين الجنوبيين في المنطقة. ففي عام 1895 بدأ سعيد الجريديني خدمة معمدانية في بيروت بدعم من كنيسة في سانت لويس في ولاية ميزوري. في عام 1904 قامت رابطة كنائس جنوبي ولاية إلينوي بدعم يوسف داود ليبدأ خدمة معمدانية في لبنان، في قرية راشيا الوادي جنوبي سهل البقاع، ومن ثمَّ في قرية كفر مشكي في عام 1908.
في عام 1919 ، وبعد الحرب العالمية الأولى وفي اجتماع للهيئة العامّة للمجمع المعمداني الجنوبي في أطلانطا، تقرّر ارسال لجنة تقوم بمسح للخدمات المعمدانية الحالية في أوروبا والشرق الأدنى. نتيجة لعمل هذه اللجنة تقرّرعقد “مؤتمر لندن” في عام 1920 ، والذي كان هدفه بناء استراتيجيّة لدعم العمل المعمداني في هذه البلدان. شارك في هذا اللقاء ممثلون عن المَجْمع المعمدانيّ الشّماليّ والمجمع المعمدانيّ الجنوبيّ في الولايات المتحدة، وكذلك عن المجمع المعمداني في كندا والمجمع المعمدانيّ البريطانيّ، بالإضافة لعدة ممثلين من الدول المعنيّة في أوروبا. في هذا المؤتمر أُسندت للمجمع المعمداني الجنوبي مسؤوليات أخرى، علاوة على الخدمة المعمدانية في ايطاليا، فأصبح مسؤولاً عن العمل في اسبانيا، يوغوسلافيا، رومانيا، هنغاريا، روسيا وأيضا في فلسطين وسوريا (المقصود من سوريا في تلك الفترة هو سوريا ولبنان).
المُرسَل المعمداني الأوّل الذي وصل من الولايات المتحدة الى فلسطين عام 1921 ، هو الدكتور و.أ هاملت من تكساس الذي عاد أدراجه بخُفي حُنين بعد فترة قصيرة من مجيئه الى فلسطين. لقد عاد وهو يقول : “الأحوال في فلسطين غير آمنة.. والوقت غير مؤاتٍ لشراء أرض وتشكيل إرسالية.”
الإرسالية المعمدانية الجنوبية في الولايات المتحدة لم تأخذ باستنتاجات هاملت المتشائمة، وذلك لوجود 466 مرسلا أجنبيًا في فلسطين وسوريا في ذلك الوقت، بينما كان الإنتداب البريطاني يحكم فلسطين منذ عام 1917 ، ولم يكن لدى الإرساليات الأخرى أيّة صعوبة في الحصول على تصريح قانوني للعمل المرسلي أو لشراء العقارات.
في أيّار من عام 1922 قامت الإرسالية بتعيين مرسليْن آخريْن للخدمة في فلسطين وهما جيمس واشنطن واتس James Washington Watts بالإضافة الى فريد بنيان بيرسونFred Bunyan Pearson. وصول المرسليْن وعائلاتهما تأخّر حتى شباط 1923، واستقروا جميعا في القدس في العام نفسه.
كانت فلسطين في تلك الفترة تخضع للإنتداب البريطاني الحديث العهد، والذي استبدلَ الحكم العثمانيّ بعد حكم دام أربع مائة عام. وتدلّ الإحصاءات التي قام بها الإنتداب البريطاني في عام 1922، على أن عدد سكان فلسطين كلها كان آنذاك حوالي ثلاثة أرباع المليون منهم 590,890 مسلمًا، 83,794 يهوديًا و73,024 مسيحيًا. المسيحيون كانوا مُوّزعين على النحو التالي: 33,369 أورثوذكسيًا، 14,245 لاتينيًا، 11,191 روم كاثوليك، 2,939 أرمنيًا، 2,382 مارونيًا، 813 سرياني أورثوذكسي، 297 قبطيًا و 85 حبشيًا. أما الطوائف البروتستانتية فكانت تضم 4,553 أنجليكانيًا، 437 لوثريًا، 361 مشيخيًا، 724 من التمبلر الألمان و 826 من طوائف بروتستانتية أخرى.
بعد وصول واتس وبيرسون الى القدس بقليل، قاما بزيارة كلّ من الناصرة وبيروت وراشيا الوادي ركوبًا على الحمير، وهي البلدات التي كان فيها خدمات معمدانية قبل وصول الإرسالية بشكل رسمي للخدمة في فلسطين وسوريا. في العام ذاته توحّد العمل المعمدانيّ في هذه البلدات تحت غطاء “إرساليات المجمع المعمداني الجنوبي في الولايات المتحده” وتمّ تأسيس “إرسالية الشرق الأدنى” ومركزها النّاصرة.
تأسيس هذه الإرسالية شكّل دعمًا أكبر للخدمة، وكان بمثابة بداية لإرسال خدّام أجانب ليخدموا الى جانب الخدّام الوطنيين. قام واتس بالإشراف على الإرسالية المعمدانية في فلسطين وسوريا، وسكن في مدينة القدس وبقي في فلسطين حتى عام 1929، بينما عاد بيرسون الى الولايات المتحدة بعد عدة أشهر لأسباب صحيّة .
إرسالية الشرق الأدنى للمجمع المعمداني الجنوبي قامت بالإستثمار في الخدمة المعمدانية في سوريا (بيروت وكفر مشكي) وفي خدمتين رئيسيتين في فلسطين: واحدة بين العرب، ومركزها الناصرة حيث انطلقت الى بعض القرى المجاورة، ومن ثمّ في مدينة حيفا، وأخرى بين اليهود ومركزها القدس، وفي مرحلة متأخرة أيضا في تل أبيب “المدينة العبرية الأولى” التي تمّ تأسيسها بالقرب من مدينة يافا التاريخيّة. هذا وكانت فلسطين في تلك الفترة تشهد تغييرات ديموغرافية بقدوم اليهود اليها من أوروبا بأعداد كانت تتزايد.
قاد الخدمة المعمدانية في الناصرة القسّ شكري موسى- مؤسّس العمل المعمداني هناك، وظلّ فيها حتى وفاته عام 1928. وفي عام 1930 تولّى الخدمة مكانه القس لويس حنا، وهو ابن أخت القِسّ شكري وأول من اعتمد على يده، وقد قام برعاية الكنيسة المعمدانية في الناصرة حتى عام 1937، وإبّان فترة خدمته أقيمت المدرسة المعمدانية في الناصرة عام 1936.
شهدت فلسطين في عام 1936 اضطرابات بسبب قلق الفلسطينيين العرب من ازدياد الهجرة اليهودية الى بلادهم، بتشجيع من البريطانيين. هذا التشجيع بدأ بوعد قام به الوزير البريطاني اللّورد بلفور، مفاده أن لليهود الحقّ في إقامة وطن قوميّ لهم في فلسطين. وكانت السياسة البريطانية في فترة الإنتداب تؤيد على العموم هذا المطلب الذي كان يعمل باتجاه معاكس تماماً لطموحات العرب الفلسطينيين بتأسيس دولة مستقلة لهم، أسوة ببقية الشعوب التي بدأت تحصل على استقلالها بانتهاء عصر الإمبراطوريات التي حكمت الشعوب لعصور طويلة خلت.
في هذه الفترة، والتي شهدت اضرابات كثيرة، عهدت رعاية الكنيسة في الناصرة إلى المرسل ليو أدليمان Leo Eddleman الذي استثمر ساعات منع التجول في الليل ليتعلم اللغة العربية، حيث تمكّن من إتقانها خلال فترة وجيزة. بقي أدليمان في فلسطين حتى عام 1941 بالرّغم من أنه كان يتوجب على كل الرعايا الأميركيين، ومن ضمنهم المرسلين، أن يغادروا فلسطين، مع دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية.
قبل ذلك بسنوات وفي عام 1929، وصل الى فلسطين المرسل روزويل أوينز (Roswell Owens) وبعد سنتين من وصوله تعلّم فيها اللغة العربية في القدس. انتقل بعد ذلك الى الناصرة، ومنها انطلق لزرع كنيسة معمدانية جديدة في حيفا، والتي تأسّست عام 1936. وأشرف أوينز على رعايتها بمساعدة خادمين محليين، هما أوغسطين شرّش والياس الصّليبي. في عام 1941 غادر أوينز البلاد، فقام على الخدمة من بعده الياس الصليبي الذي استمرّ فيها الى أن أقعده المرض في العام 1942. في هذا العام اندثرت الخدمة المعمدانية في حيفا.
استمر أعضاء الكنيسة المعمدانية في الناصرة بالعبادة في سنوات الحرب العالمية الثانية حيث أن أوينز وأدليمان لم يعودا الى فلسطين بعد انتهاء الحرب. ومنذ العام 1944 أسندت قيادة الإرسالية في الناصرة الى مجموعة من الخادمات المرسلات وعلى رأسهن المرسلة كيت إلين جروفر Kate Allen Gruver التي بادرت مع زميلتها جوليا هاجود الى تأسيس مَيتم معمداني في الناصرة في أوائل عام 1946. حتى عام 1950، قادت كيت إلين جروفر وزميلاتها الخدمة في الكنيسة في الناصرة: في الميتم المعمداني وفي المدرسة المعمدانية التي استُؤنف التّدريس فيها عام 1949.
النزاعات المتواصلة بين اليهود والعرب في فلسطين دفعت هيئة الأمم المتحدة إلى تقديم توصية بتقسيم فلسطين. في 29.11.1947 وافقت هيئة الأمم المتحدة على قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين، الواحدة يهودية والأخرى عربية. رحّب اليهود بالقرار، بينما عارضه العرب إذ رأوا فيه تحيُّزًا لليهود. وكان ذاك السّبب في اندلاع النزاعات في كل انحاء فلسطين. في 15 من شهر أيّار 1948 أعلنت اسرائيل استقلالها، ولكن المعارك والإشتباكات بين العرب واليهود استمرت حتى منتصف عام 1949 إلى أن تمّ حينذاك توقيع اتفاقية وقف إطلاق النار. في هذه الفترة تمّ تهجير مئات الآلاف منالعرب الى الدول العربية المجاورة، بينما قام قسم آخر من المُهجَّرين بالإلتجاء الى بلدات أخرى داخل دولة اسرائيل، تلك التي لم يتمّ تهجيرها. في هذه الفترة العصيبة كان للمعمدانيين في الناصرة دورهم الهام في مساعدة مئات النازحين اليها.